مقالات البابا شنودة الثالث









البابا شنودة الثالث





دون أن تطلب

إنه لاشك شئ مفرح أن يعطينا الله مانطلب‏,‏ وأكثر من هذا أن يعطينا فوق مانطلب‏,‏ ولكن أعمق الفرح هو أن يعطينا الله دون أن نطلب‏,‏ وهذه عمق الرعاية الإلهية‏,‏ التي يهتم فيها الله بخليقته‏,‏ فيعطيها من فيض محبته‏,‏ وليس لمجرد الاستجابة لصلواتهم‏,‏ وهذا الأمر واضح منذ البدء‏.‏

بديهي أن الله خلق البشر دون أن يطلبوا لأنهم لم يكونوا موجودين حتي يطلبوا الوجود‏,‏ وبنفس جود الله وكرمه خلق جميع الكائنات الأخري العاقلة والجامدة‏,‏ التي لها حياة والتي ليس لها طبعا دون أن تطلب‏,‏ لقد خلقها كلها من العدم‏,‏ والعدم ليس له كيان لكي يطلب ونحن كبشر حينما خلقنا الله‏,‏ وهبنا العقل والضمير دون أن نطلب‏,‏ وأعطانا السلطة علي كثير من الكائنات ومن الطبيعة دون أن نطلب‏,‏ وأبونا آدم وهبه الله حواء دون أن يطلب كذلك لكي تكون معينة له في الأرض‏.‏
‏*‏ في كثير من الأمور لاينتظر الله من البشر أن يطلبوا‏,‏ لكي يعطيهم‏,‏ بل هو يعرف ما يحتاجون إليه فيعطيهم دون أن يطلبوا ولكي نوضح هذا الأمر في حياتنا العملية‏,‏ نجد أن الطفل الصغير لايملك أن يعبر عن جميع احتياجاته ولكن أباه يعلم ويفهم ماذا يحتاج إليه ابنه‏,‏ فيعطيه دون أن يطلب‏,‏ وهكذا نحن مع خالقنا الكلي الحكمة والكلي الحنو والرحمة والشفقة‏,‏ هو أدري بما نحتاج إليه‏,‏ ويدبر كل احتياجاتنا دون أن نطلب‏,‏ بل ويدبر احتياجات الأمم والشعوب والجماعات ولاينتظر من كل هؤلاء أن يطلبوا وربما لايطلبون ما يفيدهم ومايفيد غيرهم معهم‏!!‏
‏*‏ مثال آخر هو الراعي وكل راع يرعي غنمه حيث توجد احتياجاتها من العشب والماء‏,‏ كذلك دون أن تطلب ونري الله أنه يرعي شعبه‏,‏ وكما قال داود النبي في المزمور‏:‏ الرب يرعاني فلا يعوزني شئ في مراع خضر يربضني‏,‏ وإلي ماء الراحة يوردني‏,‏ يهديني إلي سبل البر وهكذا الله راعي الكون‏:‏ يعولهم‏,‏ ويطلب الضال ويسترد المطرود ويجبر الكسير ويعصب الجريح ويهتم بكل واحد حسب احتياجه‏,‏ وما أكثر الأمثلة في الكتاب وفي التاريخ عن رعاية الرب للبشر‏.‏
إن الله يشبع كل حي من رضاه‏,‏ دون أن يطلب‏,‏ هو يرسل المطر والشمس‏,‏ ويدبر أمور الناس من جهة الكون‏,‏ ويعطي الطعام لكل ذي جسد‏.‏ حتي للملحدين الذين لايؤمنون به وبالتالي لايطلبون منه شيئا‏.‏ بل الله يعطي أيضا جمالا لزنابق الحقل‏,‏ وصوتا جميلا لكثير من الطيور‏,‏ طبعا بدون طلب‏,‏ وليس بسبب استحقاق الخليقة‏.‏ وإنما هو جود الله وكرمه‏.‏ والله تبارك اسمه ـ من فرط جوده أيضا وعد الناس بالنعيم الأبدي بما لم تره عين‏,‏ ولم تسمع به أذن‏,‏ ولم يخطر علي بال إنسان‏.‏ وطبعا من المستحيل أن أحدا كان يطلب مالم يخطر علي باله‏.‏ إننا قد نطلب نعيما‏.‏ ولكن هذه الصورة بالذات‏,‏ هي فوق مانطلب بكل تفاصيله‏.‏
وأيضا النبوءات منحها الله للأنبياء دون أن يطلبوا‏,‏ وما كانوا يفكرون أنهم سيصيرون هكذا‏.‏ ومنحهم النبوءات لفائدتنا دون أن نطلب نحن‏.‏ وواضح جدا أن الله يرسل الوحي دون طلب‏,‏ وهو أيضا يقدم لبعض قديسيه الحلم أو الرؤيا دون أن يطلبوا‏.‏ وربما في وقت لايتوقعه أحد منهم علي الإطلاق‏.‏ إن يوسف الصديق منحه الله أحلاما‏,‏ ومنحه موهبة تفسير الأحلام دون أن يطلب‏.‏ ويوسف الصديق كل ما كان يطلبه أن يخرج من السجن الذي ألقي فيه ظلما‏.‏ ولكن الله جعله الوزير الأول في مصر والثاني في المملكة‏.‏ وما كان هو يطلب ذلك أو يحلم به‏.‏ ولكن الله الحنون المحب أعطاه دون أن يطلب‏.‏ ومعروف أن الدعوة الإلهية وصلت إلي البعض دون أن يطلبوا‏.‏
لذلك يا أخي القارئ إن كنت في يوم من الأيام تحت سيطرة خطية معينة‏,‏ ولاتستطيع الخلاص منها‏,‏ بل لاتطلب نعمة من الله لكي تخلص‏.‏ ولا حتي تقول‏:‏ توبني يارب فأتوب ومع ذلك كله لاتيأس‏.‏ فإن كنت لاتسع إلي خلاص نفسك‏,‏ فإن الله يريد لك هذا الخلاص‏.‏ ولابد أنه سيدبر لك طريقا للتوبة‏,‏ أو يرسل لك مرشدين‏,‏ أو يرسل لك زيارة من النعمة دون أن تطلب فيتأثر قلبك ويخشي ويرجع إليه‏.‏
إن الله لايعطي فقط من أجل صلواتنا وطلباتنا‏,‏ أو من أجل استحقاقنا‏,‏ إنما كثيرا ما يعطي من أجل جوده وكرمه‏,‏ ومن أجل احتياجاتنا‏..‏ ولاشك أن هذا يغرس في قلوبنا الرجاء مهما كانت حالتنا‏,‏ ومهما كنا غير مستحقين لشئ‏.‏
إن القديسين بإيمانهم بأن الله يعطي حتي دون أن نطلب‏,‏ كانوا في كثير من الأوقات يخجلون أن يطلبوا شيئا‏.‏ بل كانت طلباتهم الوحيدة هي القرب من الله‏.‏ كما قال داود النبي في المزمور للرب‏:‏ طلبت وجهك‏,‏ ولوجهك يارب ألتمس‏.‏ لاتحجب وجهك عني‏..‏ ومع ذلك أعطي الله الضعفاء أن يطلبوا مايشاءون إن الذي يؤمن بالله وعطائه‏,‏ ينام في حضن الله ويستريح‏,‏ ويكون واثقا إن الله يدبر له كل شئ‏.‏ ولايتركه معوزا شيئا‏.‏ بل انه يقول للرب في صلاته‏:‏ هل تركت يارب لي شيئا أطلبه؟‏!‏ إنني يارب لو قضيت عمري كله شاكرا فلن يكفي‏.‏ لذلك إن رأيتني يارب أحتاج شيئا‏,‏ أعطني إياه دون أن أطلب‏.‏ إنك أدري بما ينقصني‏,‏ إن كان هناك شئ ينقصني‏.‏ إن عملي الوحيد هو أن أشكرك‏,‏ وأن أسبحك علي كرمك‏,‏ لا أن أطلب لذلك هو يطمئن إلي عمل الله من أجله‏,‏ ويعيش في فرح كامل‏,‏ لاتهتز نفسه لأية ظروف ضاغطة‏,‏ شاعرا أن حياته هي في يد الله‏.‏ وأن الله يستطيع أن يغير المواقف‏,‏ ويغير القلوب‏,‏ ويمهد له طريق السلام دون أن يطلب‏.‏

******************************************************


حساب ردود الفعل

لا يوجد شيء ليست له نتائج‏,‏ وكل امر له ردود فعله‏.‏ سواء تصرف الانسان‏,‏ أو الاحداث التي تحدث‏.‏ وانت يا اخي حينما تتعامل مع الناس‏,‏ فلست تتعامل مع جمادات‏,‏ وإنما مع نفوس لها مشاعر ولها انفعالات‏.‏ فكل كلمة تقولها‏,‏ أو كل تصرف أو معاملة‏,‏ له رد فعل مع من تتعامل معه‏.

المحبة لها ردود فعلها‏,‏ والعداوة أيضا لها ردود فعلها‏.‏ فالقسوة لها رد فعلها‏,‏ والطيبة أيضا لها رد فعلها‏.‏ بل ما يمر علي العالم من الأزمات أو المشاكل له أيضا ردود فعله‏.‏
فالبطالة مثلا كانت لها ردود فعلها‏:‏ لأنه لما لم يجد الشباب عملا ينشغلون به‏,‏ كان رد فعلهم هو الانشغال بما يضرهم ويضر غيرهم‏.‏ واذا لم تكن لهم فرصة للزواج وإنشاء بيت‏,‏ كان رد الفعل هو الفساد الخلقي‏.‏ بل إن البطالة عند البعض‏,‏ كان من ردود فعلها اللجوء إلي المخدرات‏,‏ لكي ينسي الشخص ما هو فيه من ضيق‏.‏ وأيضا الفقر له ردود فعله‏,‏ و الجوع له ردود فعله‏.‏ وهذا الموضوع واسع جدا كمشكلة اجتماعية تحتاج إلي حلول عملية‏.‏ لأنه ربما من نتائج الفقر‏,‏ قد يلجأ البعض إلي الاحتيال أو إلي السرقة‏.‏ وأيضا من ردود فعل هذه المشكلة ما نراه من أطفال الشوارع‏.‏
‏**‏ وإن كان ينبغي علي الإنسان قبل كل كلمة يقولها‏,‏ أن يفكر في ردود فعله‏.‏ ويحسب حسابا لتأثيرها علي من يسمعه‏,‏ ومدي انفعاله بها‏.‏ لذلك عليه أن يتحاشي الألفاظ القاسية‏,‏ وعبارات التهكم‏,‏ والكلمات التي لها أكثر من معني‏,‏ وقد يفهمها البعض علي معني سييء‏.‏ ويلزم أن يكون هناك احتراس شديد في الكلام مع الأطفال‏.‏ فالطفل يأخذ فكرة عنك من كلامك‏,‏ ولا تستطيع أن تنزعها منه‏.‏ لذلك عليك أن تكون صادقا في كل ما تقوله له‏,‏ وأن تفي بكل وعد تعده به‏,‏ ولا تهز المثاليات التي في ذهنه بأخطائك في الكلام‏.‏ ومن الناحية الأخري‏,‏ ثق أن كل ابتسامة منك في وجه طفل‏,‏ تضع ابتسامة اخري علي شفتيه‏,‏ فيحبك ويستريح لك‏.‏
‏**‏ إن أدبك في معاملة الناس‏,‏ واحترامك لمشاعرهم‏,‏ يكون لذلك رد فعل عندهم وعند غيرهم‏.‏ أما عبارات القسوة فلها ردود فعل تناسبها‏.‏ بها تخسر الناس في مشاعرهم نحوك وأيضا يكونون فكرة عنك وعن طباعك لا تريحك‏.‏ لذلك كن رقيقا في معاملاتك للغير‏.‏ فالرقة لها رد فعل عميق فيمن يتعامل معك‏.‏ لا تكن سريعا في مهاجمة غيرك‏,‏ أو بالتشهير بالغير‏.‏ فكل هذا له ردود فعل سيئة‏.‏
‏**‏ وفي محيط الأسرة أيضا‏,‏ ينبغي أن تكون المعاملة في رقة وأدب واحترام‏.‏ ولا يظن البعض أن الدالة تسمح بزوال هذا الاحترام بين الزوجين أو حتي مع الأولاد‏.‏ احترم زوجتك أيضا‏,‏ واستخدم الرقة واللطف في معاملتها‏.‏ وثق أن رد الفعل سيكون طيبا جدا في نفسيتها‏,‏ وستبادلك نفس المعاملة‏.‏ وعلي الزوجة أيضا أن تراعي شعور زوجها‏,‏ ولا تضغط عليه في الحديث أو الطلبات‏.‏ لأنه ربما تطلب الزوجة شيئا من زوجها‏,‏ وتلح عليه إلحاحا‏,‏ وتكرر الإلحاح حتي تسبب له شيئا من التبرم والضجر‏.‏ وربما يكون رد الفعل أنه لا يحتمل المزيد من الإلحاح‏,‏ فيرد عليها بشدة‏.‏ إن السعادة التي يجدها الرجل في بيته‏,‏ يكون من رد فعلها أنه يفضل الوجود في بيته أكثر من الخروج إلي النادي وإلي الأصدقاء‏.‏ وذلك إذا لم يجد ما يشبعه في بيته‏,‏ حتي من جهة الأحاديث التي قد تدور كلها حول أمور تافهة تختلف تماما عن أحاديثه مع أصدقائه خارج البيت‏.‏
‏**‏ كذلك في محيط الأسرة نذكر أن ما يظنه الآباء من الحزم الشديد في التربية وعدم منح بناتهم ما يحتاجون إليه من الحب والحنان‏.‏ فإن قسوة هؤلاء الآباء لها ردود فعلها‏.‏ إذ قد تبحث الفتاة عن مصدر خارجي للحب والحنان‏,‏ فتستجيب لإغراء أحد الشبان وتخطئ معه‏,‏ أو تهرب من بيتها‏,‏ وخاصة إذا كانت لا تجد من والدها سوي الانتهار والكلام الجارح وسوء المعاملة‏.‏ ونصيحتنا إلي الآباء والأمهات أن يشبعوا أبناءهم وبناتهم من الناحية العاطفية‏,‏ والبعد عن التقيدات الكثيرة‏,‏ حتي لا يصير البيت بمثابة سجن عند الأبناء‏.‏
نفس الوضع نقوله أيضا في مجال الإدارة بالنسبة للمسئول الذي يقسو علي الذين هم تحت رئاسته مما يسبب لهم ضيق النفس وشهوة التخلص منه كرد فعل لمعاملته السيئة‏.‏ ونفس الوضع يحدث مع كل رجل من رجال الأعمال يقابل العاملين عنده بالإهمال وعدم مراعاة ما يحتاجون إليه من الرزق والظروف الاقتصادية الصعبة‏.‏ أما الذي يشتهر بالعطاء‏,‏ فعطاؤه له رد فعل عميق في قلوب الذين يحسن إليهم‏.‏ وعكس ذلك البخيل فرد الفعل هو كراهيته‏,‏ وربما سرقته أيضا‏.‏
هناك أيضا ردود فعل للحرية‏,‏ وردود فعل أخري للتسيب‏,‏ تتفق علي مدي نضج الناس الذين يحسنون استخدام الحرية‏,‏ أو عدم نضجهم بحيث يكون رد فعل الحرية عندهم هو المغالاة في الأخطاء‏.‏
وربما يكون من مظاهر التسيب نشر الشائعات الضارة‏.‏ أو كرد فعل لاستخدام الحرية استخداما خاطئا‏,‏ والتعليم الخاطئ‏,‏ وقيادة الغير إلي تفكير يضرهم وكما تقول كلمات الحكمة‏:‏ أعمي يقود أعمي كلاهما يسقطان في حفرة‏.‏
‏**‏ إن ردود الفعل تظهر واضحة في الحياة الروحية لكل إنسان‏.‏ فالذي يهمل ذاته‏,‏ يهمل علاقته بالله‏,‏ ويسمح لنفسه بقراءات لا تليق أو يترك نفسه ضحية لما ينشر أحيانا في النت‏,‏ يكون رد فعل ذلك هو انحرافه وسيره في الملاهي والعبث‏,‏ أو تشويه فكره بأخبار أو معلومات تضلله وتقوده إلي الانحرافات‏.‏
كما أن معاملة الآخرين لها ردود فعلها‏,‏ كذلك تعاملك مع نفسك له أيضا ردود فعل سواء من جهة ضبطك لنفسك أو تراخيك مما يكون رد فعله هو السقوط والضياع‏.‏

****************************************
الحفظ الإلهي 









ما أجمل تلك العبارات التي وردت في المزمور‏.‏ وهي‏:‏ الرب يحفظك‏.‏ الرب يحفظك من كل سوء‏.‏ الرب يحفظ نفسك‏.‏ الرب يحفظ دخولك وخروجك‏.‏ إنها عبارات جميلة ومعزية‏.‏ وتطمئن النفس بأنها في حمي الله الحافظ‏.‏ وقد قيل في ذلك أيضا‏:‏ يسقط عن يسارك ألوف‏,‏ وعن يمينك ربوات‏.‏ وأما أنت فلا يقتربون إليك‏.‏




إن عبارة الرب يحفظك هي العبارة التي يقولها كل أب لابنه‏,‏ وكل أم لابنها‏.‏ الرب يحفظ دخولك وخروجك‏.‏ وهي عبارة أيضا يقولها كل مرشد روحي لتلاميذه أن يحفظهم الله من كل سوء‏.‏ بل هي عبارة تقال لكل جندي خارج إلي الحرب‏:‏ الرب يحفظ نفسك‏...‏ بل هي أيضا دعاء يقوله الشعب لقائده حينما يذهب في مفاوضات لأجل البلد‏.‏ فيقال له‏:‏ الرب يحفظ دخولك وخروجك‏.‏







نعم إن كل إنسان يكون في حفظ الله‏,‏ فلن تستطيع قوة في العالم أن تؤذيه‏.‏ لأن حياته هي في يد الله الحافظ وليست في أيدي المعتدين‏.‏ وكل خطر لابد أن يفقد خطورته إذا كانت مشيئة الله أن يحفظ‏.‏





والذي يؤمن بالحفظ الإلهي‏,‏ لا يخاف أبدا‏,‏ ولا يضطرب ولا يقلق‏.‏ شاعرا أن حماية الله ستنقذه من كل ضيق‏,‏ ومن كل الأعداء مهما كانت قوتهم‏.‏ بل يقول كما قال داود النبي في المزمور‏:‏ أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد‏,‏ وإلتهبوا كنار في شوك‏...‏ دفعت لأسقط والرب عضدني‏...‏ فلن أموت بعد بل أحيا وأحدث بأعمال الرب‏.‏





إن الحفظ الإلهي نابع من حنو الله‏,‏ ومن رحمته‏,‏ ومن رعايته لشعبه‏.‏ فهو ـ تبارك اسمه ـ إن رآهم وقد أحاطت بهم المشاكل وأرهقتهم‏,‏ حينئذ تتدخل رحمته لكي تنقذهم بحفظه الإلهي‏.‏ وما أكثر الأوقات التي يرسل الله فيها ملائكته لتحفظ الملتجئين إليه‏.‏ وكثيرا ما تدخل الحفظ الإلهي أثناء المجاعات‏,‏ والأوبئة‏,‏ وكوارث الطبيعة من زلازل وفيضانات وسيول‏...‏ إننا لا ننسي حينما هجم وباء الكوليرا علي مصر وهي من أمراض البلاد الحارة وقد أودت بكثيرين‏...‏ لا ننسي أنه في السنة التالية سمح أن تكون قارصة البرد‏,‏ بحيث اختفي وباء الكوليرا‏.‏ ولا ننسي إطلاقا كيف حفظ الرب بلادنا من الزلزال ولم يدرك الخطورة‏.‏





ولا ننسي حفظ الله للأطفال‏,‏ الذين قد يتعرضون لأخطار شديدة نتيجة لجهدهم وعدم حرصهم‏.‏ لكن الله يحميهم‏...‏ وقد حفظ الله موسي النبي في طفولته بطريقة معجزية أنقذته من الموت الذي كان يحكم به فرعون وقتذاك علي الأطفال‏...‏ وحفظ الله للأطفال لا يعني فقط الصغار في السن‏.‏ بل أيضا هو حافظ لكل ضعيف محتاج إلي حماية‏.‏ أي كل من لا يقوي علي حماية نفسه‏,‏ فيتدخل الله ويحميه ويحفظ له كيانه‏.‏ وما أجمل ما قاله داود النبي في هذا الموضوع‏.‏ إذ قال‏:‏ نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين‏.‏ الفخ إنكسر ونحن نجونا‏.‏ عوننا باسم الرب الذي صنع السماء والأرض‏.‏ حقا ماذا يستطيع العصفور المسكين أمام فخ الصيادين؟‏!‏ وإذ لا يستطيع شيئا لإنقاذ نفسه‏,‏ حينئذ يدركه الله أيضا في حفظه‏,‏ يحفظ كذلك من حروب الشياطين‏.‏ إنه في رحمته لا يترك الشيطان يحاربنا بكل خبثه وضلاله‏,‏ بل يضع له حدودا‏.‏ وبغير هذه الحدود كان الشيطان يستطيع أن يملأ الدنيا شرا‏.‏ أما الحفظ الإلهي فقد قيده‏...‏ وهكذا أيضا يحفظ الله الناس في حروب الخطيئة‏.‏ إذ تتدخل نعمة الله الحافظة وتقف إلي جوار الإنسان كلما ضغطت عليه الخطايا في عنف‏.‏ فيساعده الله لكي لا يسقط‏.‏ هذا إذا استجاب الإنسان إلي عمل النعمة واشترك معها‏.‏





حفظ الله للبشر عموما يشمل حفظهم في البر والبحر والجو‏.‏ فما أكثر ما تعرضت السفن لأمواج البحر العاتية التي تكاد تغرقها‏,‏ ولكن الله الحافظ يدوس علي كبرياء البحر‏.‏ وعند إرتفاع لججه هو يسكتها‏...‏ كذلك حفظ الله للطائرات في الجو‏,‏ وأحيانا تدركها أخطار من تقلب الجو ومن المطبات الخطيرة‏.‏ ولولا حفظ الله لتعرضت كثيرا من الطائرات إلي الضياع‏...‏ وهناك أخطار أيضا في البر‏,‏ فما أكثر الأحداث الخطرة‏.‏ ولكن الله يحفظ في غالبيتها‏.‏





أقول من جهة الحفظ الإلهي‏:‏ إن الله يحفظنا كثيرا حينما نطلب منه الحفظ‏,‏ وأحيانا يحفظنا دون أن نطلب‏.‏ لذلك حينما نشكر الله علي حفظه لنا‏,‏ لا نشكر فقط علي ما نعرفه من حفظه‏.‏ وإنما هناك أمور حفظنا الله فيها ونحن لا نعلم‏.‏ ومنع المشاكل من الوصول إلينا دون أن نعرف‏.‏





والحفظ الإلهي يلزمه من جانبنا الإيمان والشكر‏.‏ فأنت حينما تؤمن بحفظ الله تطمئن‏.‏ وبإيمانك بالحفظ الإلهي‏,‏ يدخل السلام إلي قلبك‏.‏ وتقول لله مع داود النبي‏:‏ إن سرت في وادي ظل الموت لا أخاف شرا‏,‏ لأنك أنت معي‏.‏ أما الذي يكون إيمانه ضعيفا‏,‏ ويتعرض لذلك الخوف‏,‏ فعليه أن يصلي لكي يمنحه الله هذا الإيمان‏.‏ وبما يقويه أيضا أن يذكر ما يعرفه من قصص الحفظ الإلهي‏.‏ إن الإيمان والصلاة تسبقان الحفظ‏,‏ والشكر يكون نتيجة لهذا الحفظ‏.‏ لأنه لا يليق بنا أبدا أن يحفظنا الله ونحن لا نشكر‏!‏ علي أن حفظ الله لنا يزيدنا إيمانا بحفظه‏.‏





وعبارة يحفظ الرب دخولك وخروجك‏,‏ لتكن في ذاكرتك وعلي فمك‏,‏ في كل مرة تخرج فيها من بيتك أو ترجع إليه‏.‏ وأيضا في كل مرة تدخل إلي مكان عملك أو تخرج منه‏.‏ وكما حفظ الله دخولك إلي هذا العالم‏,‏ فليحفظ خروجك منه‏.‏ وليحفظ دخولك إلي العالم الآخر‏.‏ وعليك أن تصلي وتقول‏:‏ أنت يارب الذي تحافظ علينا‏.‏ فمن منا يستطيع أن يحفظ نفسه بل أنت يارب الذي تحافظ علي نفسي من كل شر ومن كل سقطة‏,‏ ومن كل تجربة‏.‏ فليكن حفظ هذا مستمرا معنا كل حين‏.‏ حتي إن لم نعمل علي حفظ أنفسنا تحفظها أنت‏.‏ لأنك يارب إن فتحت أعيننا لنري كل ما حفظتنا منه‏,‏ ما كانت حياتنا كلها تكفي لشكرك‏.‏







*****************************************************

خــتاما عـن الصـــوم

ماهو الصوم؟ ولماذا نصوم؟






هل لأن الصوم وصية إلهية علينا أن نطيعها؟ ولماذا أمر الله بالصوم؟ إن الله لا يأمرنا بشيء إلا لخيرنا‏.‏ إذن لابد هناك فوائد لنا من الصوم من أجلها أمرنا الله به‏ ثم ماهو الصوم؟ هل هو مجرد علاقة بين الجسد والطعام؟ أم هو في الأصل علاقة مع الله.











نعم يا اخوتي‏,‏ إننا لو فصلنا الصوم عن الله‏,‏ لا يصبح فضيلة علي الاطلاق‏,‏ فنحن من أجل الله نأكل‏,‏ ومن أجل الله نصوم‏.‏ من أجل الله نأكل‏,‏ لكي نأخذ من الأكل طاقة نستطيع بها أن نخدم الله والناس‏.‏ ونحن من أجل الله نصوم‏,‏ لأن الصوم يقربنا إلي الله بالأكثر‏.‏






‏**‏ في الصوم يكون الجسد تحت سيطرتنا‏,‏ ولا نكون نحن تحت سيطرة الجسد‏,‏ وكما نمنع الجسد عن الطعام‏,‏ نمنع النفس أيضا عن الخطايا والآثام‏,‏ فنكون أثناء الصوم‏,‏ لسنا فقط بجسد صائم‏,‏ وإنما أيضا بنفس صائمة‏.‏ وعن أي شيء تصوم؟ يذكرني هذا بقول أحد الآباء الروحيين‏:‏ صوم اللسان خير من صوم الفم‏.‏ وصوم القلب عن الشهوات الرديئة هو خير من صوم الاثنين‏.‏ وفي الصوم أيضا لا ننجس عقلنا بفكر رديء‏.‏






‏**‏ وفي الصوم اكتساب لفضائل كثيرة‏:‏ منها تقوية الإرادة‏,‏ وضبط النفس والتدرج علي ترك خطايا محبوبة لنا وعادات خاطئة‏,‏ ومنح الروح فرصة بعيدا عن رباطات الجسد‏,‏ وفي الصوم أيضا التدرج‏,‏ تدرج علي فضائل معينة‏.‏ وهكذا يكون الصوم فترة روحية‏,‏ أو فترة مقدسة‏.‏ ولا يكون الصوم مجرد جوع للجسد‏,‏ بل يكون غذاء للروح‏.‏






‏**‏ فمن الفضائل المصاحبة للصوم‏:‏ التوبة‏.‏ والصوم من غير توبة‏,‏ لا يكون مقبولا عند الله‏,‏ ولا يستفيد منه الإنسان‏.‏ والخطية التي يرتكبها الشخص أثناء صومه تكون أبشع‏.‏ لأنها تدل علي أنه لم يبال بقدسية أيام الصوم‏.‏ ذلك لأن شهر الصوم هو شهر بر وقربي إلي الله‏.‏ فعلي الصائم أن يتخلص من الأخطاء التي تبعده عن الله وعن الناس‏,‏ ويتخلص من الكراهية ومن الحقد‏,‏ ومن خطايا النرفزة‏,‏ ومسك سيرة الناس‏.‏ ويتدرج أيضا علي مقاومة الوقت الضائع الذي هو جزء من حياته‏.‏ ويخرج من الصوم بحياة أفضل‏,‏ ويكون أكثر نقاوة وطهارة قلبا وفكرا وجسدا‏.‏






‏**‏ فهل شعرت يا أخي الصائم‏,‏ بأن الصوم قد غيرك إلي الأفضل‏!‏ أم خرجت من الصوم‏,‏ وأنت كما أنت بنفس الطباع‏,‏ ونفس الأخطاء‏!!‏ إن كان الأمر هكذا فماذا استفدت من صومك؟‏!‏






كم أصوام يا إخوتي مرت علينا علي مدي أعوام طويلة‏,‏ ونحن كما نحن؟‏!‏ إن الصوم بلا شك له فوائده الكثيرة‏,‏ هذا إذ كنا نصوم فيه بطريقة روحية سليمة‏,‏ وبالرغبة في النمو الروحي بواسطته‏,‏ وتعميق الصلة مع الله تبارك اسمه‏.‏






‏**‏ وشهر الصوم أيضا هو شهر رحمة‏,‏ يشعرفيه الصائم بالجوع فيشفق علي الجياع‏,‏ وهكذا تنمو فيه فضيلة العطاء وتستمر معه‏.‏ الجياع موجودون طوال العام وليس في شهر الصوم فقط‏.‏ إذن إذا بدأت فضيلة العطاء في شهر الصوم‏,‏ يجب أن تستمر حتي تصبح منهج حياة‏,‏ وأنت حينما تعطي‏,‏ إنما تعطي من المال الذي أعطاك الله إياه‏,‏ وأصبحت مجرد مؤتمن علي تدبيره ليس لخيرك فقط إنما لخير الآخرين أيضا‏.‏ أنت تعطي فيعطيك الله بالأكثر‏,‏ وإذا أمسكت يديك فأنت الخاسر‏.‏ وما أصدق قول الشاعر عن الأموال‏:‏






فهي بالإنفاق تبقي‏..‏ وهي بالإمساك تفني






إنها مثل قدح من القمح تلقيه في الأرض فيعطيك طنا من الغلة‏.‏ إن الفقراء هم رعية الله‏.‏ أعطاك لتعطيهم‏,‏ وبالنسبة إليك هم إخوتك في البشرية‏.‏ فإن كنت لا تعطي في فترة الصوم‏,‏ فمتي ستعطي أذن؟‏!!‏ والصوم أيضا هو فترة تتفرغ فيها لله بالأكثر‏.‏ هي فترة أكثر للصلاة وللتأمل ولانشغال الفكر بالله‏.‏ وهنا أسأل في صراحة‏:‏ ما هو نصيب الله في صومك؟ هل مشاغل الدنيا ومشاكلها تملأ فكرك أثناء الصوم؟ وتتوه في دوامة العمل‏,‏ ودوامة الأخبار‏,‏ ودوامة الأحاديث‏...‏ وتشغل فكرك بالتافهات؟ ولا يبقي وقت لله في مشغولياتك‏.‏ إن كنت إنسانا روحيا‏,‏ فعليك أن تقول لجسدك أثناء الصوم‏:‏ أنا لست متفرغا لك الآن‏.‏ بل أنا مشغول بعملي الروحي‏,‏ وطعامي الحقيقي هو كل كلمة تخرج من فم الله‏.‏ يا أخي إن يوم الصوم الذي لا تفكر فيه في الله وفي وصاياه‏,‏ أشطبه من أيام صومك‏.‏ لا تجعل مسئولياتك تطغي وتستقطب كل أفكارك‏.‏ بل إجعل لها حدودا‏,‏ فتقوم بها ولكن بحيث لا تنسيك واجباتك نحو الله‏.‏ وليتك في برنامج صلاتك‏,‏ أن تصلي من أجل الآخرين أيضا‏,‏ من أجل كل محتاج إلي المعونة‏.‏






‏**‏ إن الصوم ليس هو إرغاما لك علي عدم الأكل‏,‏ بل هو ارتفاع منك عن شهوة الأكل‏.‏ وأن يكون صومك بغرض روحي‏.‏ ويصير الصوم فترة تخزين روحي للعام كله‏.‏ ومن هنا تختلف أيام الصوم عن باقي أيام السنة‏.‏






‏**‏ إن الصوم هو فترة ترتفع فيها الروح فتجذب معها الجسد‏,‏ وتخلصه من أحماله وأثقاله‏.‏ فلا نهتم بما للجسد بل بما للروح‏.‏ نريد أن تكون أرواحنا مع الله‏,‏ وألا يعوقها الجسد فنخضعه بالصوم‏,‏ لكي يرتفع عن المستوي المادي ويتحد مع الروح في عملها‏.‏ وهنا يكون عمل الجسد أثناء الصوم هو مجرد تمهيد للروح‏,‏ أو تعبير عن مشاعر الروح‏.‏ ويصبح الجسد روحيا في منهجه‏.‏ وتكون فترة الصوم هي فترة روحية يقضيها الجسد والروح معا في العمل الروحي‏,‏ إن أخطر ما يتعب البعض في الصوم‏:‏ أن الجسد لا يتغذي والروح أيضا لا تتغذي‏!‏ فيكون الصوم بذلك فترة حرمان متعبة‏!‏ إذن لابد من غذاء الروح أثناء الصلاة‏,‏ وغذاء الروح هو في صلاة القلب‏,‏ وفي التأمل‏,‏ وفي القراءات الروحية‏,‏ وفي التسابيح والتراتيل‏...‏ والروح إذا تغذت تستطيع أن تحمل الجسد معها‏.‏






‏**‏ إنك تغذي جسدك كل يوم ومرات عديدة‏,‏ وبأنواع شتي من الأطعمة‏.‏ فهل تغذي روحك هكذا؟‏!‏ وأنت تعطي جسدك مقويات عددية‏.‏ فهل تعطي روحك كذلك؟‏!‏ ليتك تهتم بروحك علي الأقل كما تهتم بجسدك‏ .








*****************************************
السلام مع الناس



مااجمل الحياة في سلام مع الآخرين‏,‏ والمجتمع الذي يسوده السلام‏,‏ هو مجتمع مثالي محبوب‏.‏ لذلك فعلي قدر طاقتك حاول ان تسالم جميع الناس‏




,‏ واقول علي قدر طاقتك‏,‏ لان عدم السلام احيانا قد يكون سببه منهم وليس منك‏.‏ يكونون‏.‏ حتي في مثل هذه المواقف حال ان تحتفظ بسلامك الداخلي ان استطعت‏,‏ ولكنك ربما لاتستطيع مسالمة الكل‏,‏ اذا كانت تلك المسالمة علي حساب ضميرك وروحياتك‏.‏

ان هناك امورا يمكن للانسان ان يمررها في هدوء‏,‏ دون ان يفقد السلام بينه وبين الناس‏.‏ ولايعطي خطورة لأمثال تلك الامور البسيطة التي لاتتعب ضميره‏,‏ فكيف يستطيع الانسان ان يتعامل في سلام مع الذين يعاملونه في غير سلام ؟‏!‏ او كيف يسالم الذين يتعبونه ويقاومونه؟ هناك بلا شك بعض مباديء روحية واساليب معاملات‏,‏ ان اتبعناها يمكننا ان نعيش في سلام مع الكل‏:‏ ومن ذلك حياة الوداعة والاتضاع فالانسان الوديع‏,‏ الهاديء‏,‏ الطيب القلب‏,‏ الدمث الخلق‏,‏ الرقيق‏,‏ اللطيف‏,‏ المبتسم‏,‏ البشوش‏..‏ لاشك انه يستطيع ان يسالم جميع الناس‏.‏

وبالمثل الانسان المتواضع‏,‏ الذي في تواضعه ـ لايغضب من احد‏,‏ ولايغضب احدا‏.‏ وبعكس ذلك الشخص العصبي الثائر‏,‏ لذلك ان اردت ان تسالم الكل‏,‏ لاتكن عصبيا‏,‏ حاول في كل حين ان تهديء اعصابك‏,‏ ولاتكن سهل الاستثارة‏,‏ وان حاول احد ان يثيرك‏,‏ لاتستسلم الي الضعف البشري وتثار‏,‏ ان الشخص القوي هو الذي يستطيع ان يحتمل لذلك ان غضبت وثرت علي من يسيء اليك‏,‏ تكون ضعيفا لم تحتمل‏,‏ وان ثرت تخسر من اساء اليك بل تكون قد هبطت من مستواك الروحي واصبحت مثل اولئك المسيئين‏,‏ وما أجمل قول سليمان الحكيم‏:‏ لاتجاوب الجاهل حسب حماقته‏,‏ لئلا تعدله انت اي صرت معادلا له او مساويا له في اخطائك‏.‏

اذن كيف تعامل من يثيرك ويغضب عليك؟ يقول الحكيم‏:‏ الجواب اللين يصرف الغضب والكلام الموجع يهيج السخط اذن فالانسان الوديع هو الذي يقابل غضب غيره بكلام طيب هاديءوبهذا الاسلوب يصرف غضبه عنه ويسالمه‏,‏ اما ان رد عليه بكلام موجع‏,‏ فإنه يهيجه عليه بالاكثر‏,‏ وقد يتحول الامر الي معركة‏.‏ لذلك حسن ماقاله الاباء في هذا المجال‏:‏ ان النار لاتطفئها النار‏,‏ بل يطفئها الماء النار تزيد النار اشتعالا اما الماء فإنه يخمد لهيبها بليونته‏.‏

لذلك ان اردت ان تسالم الناس‏,‏ لاتكن حساسا جدا في مقابلة اخطائهم‏,‏ لاتقل هذه الكلمة جرحتني او أغضبتني‏,‏ وهذه الكلمة جرحتني‏,‏ وهذه الكلمة اهانتني‏,‏ لانه ان كان كل شيء يجرحك فلن تستطيع ان تحيا في سلام مع الناس‏,‏ لاتكن كنبات الخروع الذي تهزه اي ريح‏,‏ بل كن مثل السنديانة الصلبة التي تثبت امام الريح العاصفة ولاتهتز‏.‏

تستطيع ايضا ان تسالم الناس‏,‏ ان اكتسبت فضيلة الهدوء والاحتمال‏,‏ لاتقل فلان متعب‏,‏ فلم اقدر ان اتعامل معه‏,‏ ولكن لو كان عندك احتمال‏,‏ ما استطاع هذا المتعب ان يتعبك‏,‏ تأكد يا أخي ان مايتعبك ليس هو اخطاء الناس‏,‏ بل اعصابك وطريقة تفكيرك‏,‏ فإن استطعت ان تهديء اعصابك‏,‏ ولاترهق تفكيرك بالحكم علي تصرفاتهم‏,‏ حينئذ يمكنك ان تسالمهم‏,‏ ولو بالبعد عن مجالهم المتعب‏,‏ وهنا اذكرك بقول القديس يوحنا ذهبي الفم‏:‏ لايستطيع احد ان يوذ انسانا‏,‏ مالم يؤذ هذا الانسان نفسه‏.‏ فأنت تؤذي نفسك ان تركت افكارك تتعبك‏.‏

لذلك قال نفس هذا القديس‏:‏ هناك طريقة تستطيع بها أن تتخلص من عدوك‏,‏ وهي أن تحول هذاالعدو الي صديق‏,‏ وكيف تحوله الي صديق؟ ذلك بالمسالمة بل والاحسان اليه‏.‏ ولاتجعل شره يغلبك‏,‏ بل اغلب الشر الذي فيه بالخير الذي فيك كذلك تستطيع ان تسالم الناس بالحكمة‏.‏ فالانسان الحكيم‏,‏ يتصرف برزانة‏,‏ وبهدوء وبعد تفكير‏,‏ ولايخسر الناس لان رابح النفوس حكيم والنفوس لاتستطيع ان تربحها بالمنازعة والعداوة ومقابلة المثل بالمثل‏,‏ انما بالمسالمة‏.‏

ان الانسان الحكيم يعرف ماهو المفتاح الذي يمكنه به ان يدخل الي قلب احد‏,‏ وهكذا يعامل كل شخص بما يناسبه‏,‏ حسب دراسته بطبعه وصفاته‏,‏ وهكذا ليس فقط يسالم الناس‏,‏ بل بالاكثر يكسب محبتهم‏,‏ اذن لكي تسالم الناس‏,‏ ادرس شخصياتهم‏,‏ وعاملهم بما يناسبهم‏,‏ وفي حكمه لاتتسرع بمجابهة الامور‏,‏ بل عامل الغير بطول اناة وسعة صدر ورحابة قلب‏,‏ بل حسب التعبير العامي لتكن لك صفة انسان بحبوح انك قد تخسر الناس بوجهك العابس المتجهم‏,‏ وبجديتك الزائدة‏,‏ ومقابلة كل امر بحزم شديد‏!‏ انما بالبشاشة واللطف‏,‏ يمكنك ان تكسب الناس في اصعب المواقف‏,‏ حاول ان يكون لك روح المرح في معاملة الآخرين‏,‏ وربما الشخص الذي يعاملك بطريقة متعبة‏:‏ ان ابتسمت في وجهه ورددت عليه بفكاهة تضحكه فإنه قد يشاركك المرح فتكسبه‏,‏ وطبعا ليس الجميع يمكنهم أن يتقنوا أسلوب المرح هذا‏,‏ اني انصحك بالبشاشة واللطف‏,‏ والوجه البشوش محبوب من الناس‏,‏ ويمكنه ان يكسبهم علي الاقل ليعيشوا في سلام معه‏,‏ وثق انك لو كنت انسانا غليظ القلب‏,‏ لانفض الناس من حولك‏,‏ ولوكنت تحاسب غيرك علي كل كلمة وتصرف ولاتسامح فإنك لن تقدر علي مسالمة الناس‏,‏ فأذكر قول الشاعر‏:‏

اذا كنت في كل الامور معاتبا‏.....‏ صديقك لم تلق الذي تعاتبه

فعش واحدا او صل اخاك فإنه‏...‏ مقارف ذنبا مرة ومجانبه

اذا انت لم تشرب مرارا علي القذي‏..‏ ظمئت واي الناس تصفو مشاربه

اخيرا اقول لك ربما يسمح الله ان يعترض طريقك بعض المتعبين‏,‏ لكي تتدرب علي فضيلة الاحتمال وعلي المغفرة للمسيئين‏.‏




*************************************************** 

نوعيات من المحتاجين 



من هم المحتاجون؟ أنهم أنواع وأشكال متعددة‏,‏ فهناك المحتاجون ماديا ينقصهم المال وسعة الرزق‏,‏ والمحتاجون اجتماعيا ويلزمهم التوجيه والاهتمام بهم والمحتاجون روحيا ويلزمهم الإرشاد والقيادة إلي التوبة‏,‏ والمحتاجون ثقافيا وتنقصهم المعرفة والتعليم‏.‏ 



أما عن المحتاجين ماديا‏:‏ فنري كثيرين يتكلمون عن محدودي الدخل وينسون معدومي الدخل‏,‏ يتكلمون عن الفقراء وينسون الذين هم تحت خط الفقر‏.‏ إذن هناك الفقير‏,‏ والمعوز أي المحتاج وما أكثر ما نشرت الجرائد عن هؤلاء دون أن تقدم حلولا فأصبح الأمر مجرد كلام بدون عمل‏,‏ وعن هؤلاء نسأل من هم المسئولون عنهم أو المهتمون بهم ؟هل هم علماء الاجتماع أم علماء الاقتصاد أم المسئولة هي الدولة‏,‏ أم أصحاب القلوب المشفقة من أثرياء الشعب أو الجمعيات الخيرية أو محبو الخير عموما‏.‏

في أمريكا توجد مجموعة من الفقراء الذين لا مأوي لهم يطلقون عليهم لقب‏Homeles‏ وهؤلاء تصرف لهم الدولة معونة هي الحد الأدني جدا من الإيراد الذي يكفيهم في الضروريات‏.‏

نذكر من بين المحتاجين طائفة الذين أهملهم المجتمع وليس لهم أحد يذكرهم يقول المحتاج منهم‏:‏ ماحدش حاسس بي ذلك لأن الذين يعيشون في سعة وفي سعادة لا يشعرون بالمحرومين من كل ذلك‏,‏ فيلزم للذين يجلسون في القمم أن ينزلوا إلي القاع ليروا من يعيش فيه وكيف يعيش وعلي هذا النسق فإن سكان المدينة ينبغي أن يفكروا في إخوتهم الذين يعيشون في النجوع ويحتملون البرد والجوع كما يقاسون اختلاف الأجواء وعدم اهتمام أحد بهم وكأنهم ليسوا إخوة في الوطن ومثل هؤلاء بعض الذين يعيشون في القري المعدمة‏,‏ وهنا لا نتكلم عن مجرد احتياج فرد انما القرية‏,‏ كلها ومن بين هؤلاء من لا يجدون الماء النقي للشرب أو الكهرباء اللازمة أو وسائل الصرف الصحي‏..‏ وأهل الخير قد يحزنون علي حالة هؤلاء ومع ذلك تبقي حالتهم كما هي‏!‏

ومن المحتاجين أيضا الشباب الذين أدركتهم البطالة حتي بعد تخرجهم من الجامعة وفي هذه البطالة لا يستطيعون تكوين أسرة‏,‏ فليس لهم مال لتدبير سكن للمعيشة‏.‏ وقد ارتفعت أسعار المساكن جدا وليست لهم قدرة علي تكاليف الزواج وعلي رعاية بيت ماديا‏,‏ ومن هنا تأخر سن الزواج عند الفتيات وعدم القدرة ماديا علي الزواج أدي إلي العديد من مظاهر الفساد الخلقي وإلي تحايل البعض للخروج من هذا المأزق بما يسمونه الزواج العرفي حيث لا مسئوليات فيه علي الاطلاق‏!‏

من المحتاجين إلي الرعاية أيضا ما يمكن أن نسميهم مجموعة الغرباء ولعل من بينهم الذين غادروا من الصعيد إلي المدن الكبري مثل القاهرة‏,‏ حيث لا يجدون سكنا ولا عملا وأحيانا لا يجدون ترحابا‏.‏ هم قد انتقلوا من ضيقة في بلادهم‏,‏ ليصادفوا ضيقة أخري في المكان الذي هاجروا إليه‏,‏ والله تبارك اسمه يدعونا إلي اضافة الغرباء ليس فقط الغرباء الذين يأتون من خارج بلادنا وإنما أيضا الغرباء الذين هم إخواننا في الوطن‏..‏ وهؤلاء الغرباء كما يحتاج الأحياء منهم إلي عناية كذلك يحتاج موتاهم إلي مدافن‏,‏ كما تحتاج أيضا إلي مدافن مجموعات الفقراء‏.‏

ومن المحتاجين أيضا المرضي الذين تلزمهم عمليات جراحية تكاليفها فوق طاقتهم وربما فوق طاقة المحسنين إليهم أيضا بل الكثير من هؤلاء لا يجدون أيضا ثمن الدواء‏.‏ وربما تنهار صحتهم لعدم قدرتهم علي تكاليف العلاج‏.‏ فيموتون وهم ضحايا المجتمع‏,‏ ونذكر من بين طائفة المرضي من أصيبوا بالجزام أو السل‏.‏ وأصبح كثيرون يمتنعون حتي عن زيارتهم أو الاختلاط بهم‏,‏ ومن المحتاجين أيضا المرضي بأنواع من السرطانات وقد كثرت جدا في هذا الجيل ونحن نشكر قيام مستشفي لسرطانات الأطفال ونود أن تنتشر هذه العناية في نطاقات أوسع بكثير‏.‏

وينضم إلي طائفة المرضي المحتاجين مجموعة المعاقين واحتياجاتهم الكثيرة سواء من جهة العلاج‏,‏ أو من جهة الدراسة‏.‏ وأشد هؤلاء المعاقين احتياجا هم المعاقون ذهنيا‏..‏ نضم أيضا إلي المرضي المحتاجين أولئك الذين وقعوا في الإدمان وأصبحوا محتاجين إلي علاجهم من ادمانهم‏.‏

من بين المحتاجين أيضا المساجين الذين ينبغي أن نشعرهم بأن المجتمع لم يلفظهم تماما‏.‏ وانما هم يقضون فترة عقوبة ليخرجوا منها إلي حياة أفضل‏,‏ فهنا تكون فضيلة زيارة المسجونين وتقديم العطايا لهم وبخاصة من يشعرون انهم قد سجنوا ظلما‏.‏ وهناك بعض المسجونين كانوا هم الوحيدين الذين يعولون أسراتهم‏.‏ وبسجنهم أصبحت العائلة كلها في صفوف المحتاجين وفي حاجة إلي رعاية واهتمام‏,‏ ونضم إلي هؤلاء أيضا المديونين والذين وقعوا منهم علي ايصالات أمانة وأصبحوا هم أيضا مهددين بالسجن إن لم يسددوا ديونهم‏.‏

ومن المحتاجين أيضا الذين لا يقدرون علي تزويج بناتهم لأنهم لا يملكون تكاليف الزواج‏,‏ ومن ضمن هؤلاء ما نسميهم بالأسر المستورة‏.‏ فهم يحتاجون ولكن لا يستطيعون إعلان احتياجهم بسبب مركزهم الاجتماعي‏.‏ وهؤلاء يحتاجون إلي سد احتياجاتهم في سرية‏,‏ ونضم إليهم الأيتام والأرامل‏.‏ ومن ضمن المحتاجين بعض الشعوب الفقيرة‏.‏

إن الله ـ من حنوه وعطفه ـ أوجد علي الأرض خيرا يكفي الكل‏,‏ وبقي علي الموسرين أو الأثرياء أن يسدوا احتياج الفقراء ويكون ذلك بدافع الحب والإشفاق‏,‏ وليس بالتعالي واشعار المحتاجين باحتياجهم‏.‏ علي أن يكون العطاء لهؤلاء دون أن يطلبوا فمن يعطي عليه أن يشعر باحتياج الآخرين ولا ينتظر أن يطلبوا منه‏,‏ بل يجب أن يعرف أن هؤلاء المحتاجين لهم حق شرعي في ماله كوصية الله من جهة العشور والزكاة‏.‏

‏..‏أما عن المحتاجين روحيا وقيادتهم إلي التوبة وحياة الفضيلة‏,‏ فهذا الأمر يحتاج إلي مقال آخر‏.‏



**************************************************  

الاهتمام بالغير 


ان اهتمامنا بالغير هو مظهر عملي لمحبتنا للناس‏,‏ وفي الاهتمام بالغير‏,‏ لايعيش الإنسان لنفسه فقط‏,‏ بل يهتم بما لغيره كما يهتم بما لنفسه‏,‏ وربما أكثر‏,‏ إذ يؤثر غيره علي نفسه‏,‏ لو ينسي ذاته في محبته للآخرين‏,‏ فهو يؤمن تماما ان حياته ليست ملكا له‏.‏







انما هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه‏,‏ وفيما يهتم الإنسان الروحي بالكل‏,‏ نراه يتعب ليستريح غيره‏,‏ فهو يهتم بمشاعر الناس وفي محاولة إسعادهم‏,‏ ويندمج في مشاعرهم‏,‏ دموع الناس تسير من عينيه‏,‏ وتسقط من جفنيه‏,‏ وافراح الناس تنبع من قلبه قبل ان تنبع من قلوبهم‏.‏













‏..‏ أول مثل قدمته لنا الطبيعة في الاهتمام بالغير‏,‏ هو مثال الأمومة المحبة الحانية‏,‏ فالأم تفكر في طفلها أكثر مما تفكر في نفسها‏,‏ تسهر حتي تطمئن انه قد نام‏,‏ وتتعب لكي يستريح هو‏,‏ ولاتتبرم بأي طلب يطلبه‏,‏ تبتسم إذا ابتسم‏,‏ بل ان ابتسامة هذا الطفل ترتسم علي شفتي امه قبل ان ترتسم كاملة علي شفتيه‏,‏ لقد أوجد الله في قلب الأم عواطف الحب والحنان والبذل والاهتمام بطفلها أكثر من الاهتمام بنفسها‏.‏






‏..‏ إن مشاعر الاهتمام بالغير تنزع من القلب الانانية والاهتمام بالذات‏,‏ فيرفض الإنسان تماما ان يبني راحته علي تعب الآخرين‏,‏ بعكس ذلك الشخص الذي يلوث الجو بدخان سيجارته‏,.‏ ولايعبأ في ذلك ان الغير قد تؤذي صحته بتدخينه هو‏,‏ ويضطر علي الرغم منه ان يستشق الدخان الفاسد الذي ينفثه المدخنون‏,‏ ولهذا فإن شركات الطيران لاتصرح للركاب بالتدخين في كثير من الرحلات‏,‏ ومن أمثلة غير المهتمين بغيرهم‏,‏ من يرفع صوته بطريقة تعكر الهدوء‏,‏ وتعطل غيره عن التفكير أو القراءة‏,‏ أو من يركن عربته في موضع تعاكس عربات غيره دون ان يبالي‏,‏ ولكنها الانانية التي لاتهتم بغيرها‏.‏











‏..‏ أما الإنسان المهتم بغيره‏,‏ فلا مانع عنده من ان يتعب ليستريح الغير‏,‏ وهو لايطلب ما لنفسه‏,‏ واهتمامه بغيره ينبع من محبته للغير‏,‏ وأيضا من محبته للخير‏,‏ وبغيره لايزاحم الناس في طريق الحياة‏,‏ إنما يفسح لهم الطريق ليعبروه‏,‏ ولايمتنع في ان يتقدموا عليه وهو يفعل ذلك باهتمام وليس بمجرد شكلية‏,‏ انه شعور ينبع من قلبه ويدفعه لبذل الجهد الذي يناسب اهتمامه‏.‏



















‏..‏ والاهتمام بالآخرين يشمل العناية بهم من كل ناحية‏,‏ سواء من الناحية المادية أو الاجتماعية أو من الناحية الروحية‏,‏ او من جهة نفيستهم ومشاعرهم وراحتهم‏,‏ وحل مشاكلهم‏,‏ واشعارهم ان هناك من يسندهم ويقف إلي جوارهم‏,‏ فإن كثيرين من الذين لايهتم بهم أحد يقول الواحد منهم‏:‏ لايوجد أحد بما يشعر بما انا فيه‏,‏ أو يحس بحالتي‏!!‏















‏..‏ والاهتمام بالغير يكون أحيانا في نطاق العمل‏.‏ فهناك فرق بين موظف وموظف‏:‏ الموظف الذي يهتم براحة الجمهور‏,‏ يظهر اهتماهه في بذل كل الجهد لراحتهم‏,‏ ودون تأخير‏,‏ اما الموظف الروتيني‏,‏ فانه يماطلهم ويطلب إليهم ان يعودوا إليه في موعد آخر‏,‏ وقد يضع العراقيل في طريق قضاء مصلحتهم‏,‏ ولذلك اتذكر انني قلت ذات مرة‏,‏ الموظف المتعاون يحاول ان يجد حلا لكل مشكلة‏,‏ اما الموظف الروتيني فقد يجد مشكلة لكل حل‏!!‏





















‏..‏ المهتم بالآخرين يظهر اهتمامه بالإسهام في حل مشكلاتهم‏,‏ إذ يعتبر ان مشكلة الغير كأنها مشكلته شخصيا‏,‏ ويهتم بحلها مهما كلفه ذلك من جهد‏,‏ ويكون سعيدا ان وصل فيها إلي حل‏,‏ لأنه يشعر بفرح في اسعاد الآخرين‏,‏ وانقاذهم مما هم فيه من ضيقات‏,‏ ولاشك ان الناس يشعرون باهتمامه واخلاصه‏,‏ علي الرغم من ان الأمر لايدخل في نطاق مسئوليته ولكن اهتمامه يترك في نفوسهم اثرا عميقا هذا الإنسان الذي يفكر فيهم وفي اسعادهم‏.‏























‏..‏ والاهتمام بالغير يمكن تطبيقه علي مستوي الاسرة‏,‏ حيث يبذل الزوج كل طاقته في ان يهتم كل الاهتمام براحة زوجته واولاده‏,‏ وكذلك الزوجة تهتم كل الاهتمام براحة زوجها‏,‏ ويهتم الاثنان براحة اولادهما‏,‏ وان الاهتمام المتبادل فطبيعي ان لاتحدث اطلاقا حوادث الطلاق التي نسمع عنها‏,‏ ان مثل هذا الاهتمام في محيط الأسرة او بين كل افراد المجتمع‏,‏ هو مايسميه البعض بالعقد الاجتماعي‏,‏ حيث يكون الاهتمام علي المستوي الاجتماعي والشخصي‏,‏ فيتدرب الإنسان في بيته علي الاهتمام بأهله واخوته واقربائه بل وجيرانه أيضا‏,‏ وفي مكان عمله يتعود كيف يهتم بزملائه‏,‏ ثم يتطور حتي يهتم بجميع الناس‏,‏ ويعيش كإنسان نشيط في المجتمع يخدم الكل‏,‏ ويصير إنسانا خدوما يحب الجميع‏,‏ وباهتمامه بهم يجذبهم أيضا إلي محبته‏,‏ وهذا الاهتمام بالغير يشغل فكر الإنسان المحب ويشغل عواطفه‏,‏ فيتناوله بجدية ولايهمله مطلقا‏,‏ هناك فرق بين إنسان تطلب تدخله في مسألة معينة‏,‏ فيقول لك‏:‏ انا فاكر موضوعك‏,‏ وبين اخر يقول لك‏:‏ انا مهتم بموضوعك‏,‏ ويظهر اهتمامه هذا عمليا‏,‏ إنسان يهمك امره‏,‏ فتقابله‏,‏ وتكلمه باهتمام‏,‏ وتعامله باهتمام‏,‏ ويظهر اهتمامك به في طريقه للقائك به وفي تحيتك له‏,‏ وفي عدم احراجه حينما تساعده‏,‏ ان اهتمامك بالغير يظهر في ملامح وجهك‏,‏ وفي نبرات صوتك‏,‏ انه اهتمام يشعر به من يتعامل معك‏,‏ دون ان تعلن له انك مهتم به وبما يعرضه عليك من موضوعات‏.‏

























‏..‏ يظهر اهتمامك بالغير أيضا دون ان تطلب هذا منه‏,‏ فهناك شخص قد يكون في خطر وهو لايشعر بذلك‏,‏ وقد يحتاج إلي انقاذ دون ان يعرف إلي من يلجأ‏,‏ ويصل إليك موضوعه بطريق غير مباشر‏,‏ فتهتم به وتنقذه دون ان يطلب‏,‏ ويظهر الاهتمام بالغير أيضا في الأمور الروحية‏,‏ فقد يكون شخص غارقا في عمق الخطية‏,‏ وهو لايطلب الخلاص منها‏,‏ لانه لايريد ذلك‏.‏ وتهتم انت بخلاصة دون أن يسألك معونة في ذلك‏,‏ وتعمل كل ماتستطيع لكي تقوده إلي التوبة‏,‏ بكل حب واحتمال وطول اناة‏,‏ هذا النوع هو الاهتمام الروحي‏,‏ وقد يكون من عمل الرعاة والمرشدين الروحيين كما يكون من عمل الاجتماعيين الذين يهمهم سلامة أفراد المجتمع من الضياع‏,‏ مثال ذلك المهتمون بعلاج المدمنين وانقاذهم من الإدمان‏.‏




































وانت إيها القارئ العزيز لعلك تشارك في الاهتمام بالغير من أي نوع يصل إليك‏.‏


























******************************************************













محبة الناس‏..‏ شروطها وأنواعها












محبة الناس هي لكل الناس جميعا‏.‏ فالبشر كلهم أقرباء بعضهم لبعض كلهم أبناء آدم وأبناء حواء‏,‏ خلقهم الله من هذين الأبوين ليكونا جميعا أسرة واحدة‏.‏ تربطهم رابطة الدم وبالتالي رابطة الحب‏.‏




لهذا فإن عدم الحب بين البشر هو أمرغير طبيعي‏,‏ وهو في نفس الوقت لايتفق مع الصالح العام‏,‏ كما لايتفق مع مشيئة الله ولامع وصاياه‏.‏ والعجيب أن أول إيذاء حدثنا عنه التاريخ كان من إنسان ضد إنسان‏,‏ ولم يكن من وحش افترس إنسانا‏.‏ وهكذا فإن هابيل البار قام عليه أخوه وقتله‏.‏وبدأت البغضة والقسوة بين الناس ولم تستطع البشرية أن تحتفظ بالحب حتي بين أفراد الأسرة الواحدة‏.‏ ومعروفة قصة يوسف الصديق مع إخوته‏..‏ وتتابعت مأساة فقدان الحب في تاريخ البشرية‏.‏ وكثرت قصص العداوة والبغضاء‏,‏ وقصص الحسد والغيرة وتصادم الأغراض‏,‏ والنزاعات والحروب‏,‏ والتنافس علي الرزق وعلي السلطة والمناصب‏,‏ واكتست الأرض بدماء بريئة وبدماء غير بريئة وأصبح الأخ يعتدي علي أخيه والأخ يخاف أخاه‏..‏ حتي قال أحد الشعراء‏:‏ عوي الذئب فاستئنست بالذئب إذ عوي‏..‏ وصوت إنسان فكدت أطير‏.‏
وقدم لنا الله وصايا لإعادة المحبة بين الناس‏,‏ وتقديم القدوة في ذلك‏,‏ ومعالجة الأسباب التي أوصلت البشرية الي التخاصم والعداوة والقسوة‏,‏ وقام المصلحون الاجتماعيون والرعاة الروحيون ببذل أقصي الجهد في العمل علي ترميم بناء المحبة المنهدمة‏,‏ كما وضع الله الأسس للتعامل بين الناس‏:‏ أما الأساس الإيجابي‏,‏ فهو مشاعر الود والتعاطف والتعاون‏.‏ وأما الأساس السلبي فهو الكف عن الكراهية والاعتداء‏..‏ فالكراهية هي المشاعر الكامنة داخل القلب‏.‏ والاعتداء هو التعبير الظاهر عن تلك المشاعر الداخلية‏..‏ والمطلوب هو الارتقاء بكل مشاعر الإنسان للوصول الي مستويات الحب‏,‏ والحب هو القمة التي تصل إليها المشاعر البشرية‏,‏ وفي يوم الدينونة العظيم‏,‏ ستفحص كل أعمالنا وعواطفنا‏,‏ ويستخلص مافيها من حب‏,‏ فيكافئنا الله عليه‏,‏ علي أن هذا الحب له قواعد ينبغي أن نعرفها لكي تكون محبتنا بعضنا للبعض سليمة ومقبولة‏.‏
أولا ينبغي أن تكون محبتنا للناس داخل محبتنا لله‏,‏ فلا تكون ضدها ولاتزيد عليها‏.‏ فلا نحب أحدا عن طريق كسر وصية من وصايا الله‏,‏ فالصديق الذي يحب صديقه بحيث يجامله في كل خطأ‏,‏ ويخشي أن يقدم له نصيحة مخلصة لئلا تجرح شعوره‏.‏ هنا لايحبه بالحقيقة‏.‏ والأم التي تدلل ابنها تدليلا يفسده‏,‏ أو تغطي علي أخطائه بحيث لايعرفها أبوه‏..‏ لا تكون محبتها لابنها محبة حقيقة ولانافعة‏,‏ بل لانسميها حبا إنما تدليل‏.‏ ومن شروط المحبة الحقيقية ان تكون عملية‏.‏ فتظهر محبتنا للناس في معاملاتنا لهم‏,‏ في اخلاصنا لهم‏,‏ ومشاركتنا الوجدانية‏..‏ ووقوفنا معهم في وقت الشدة وتخليصنا لهم من ضيقاتهم ومحبتنا للفقراء تظهر في عطفنا عليهم وإعطائهم ما يلزمهم وليست في مجرد كلام العطف أو الدعاء‏,‏ وهكذا ارتبط الحب عموما بالعطاء بل والبذل‏.‏ فلايوجد حب أعظم من هذا أن يبذل أحد نفسه لأجل آخرين‏,‏ ويظهر الحب والعطاء بالأكثر في أن يعطي الإنسان من أعوازه‏,‏ وأن يضحي باحتياجاته سببا في إسعاد الآخرين‏.‏ وهنا نقول إن المحبة لاتطلب ما لنفسها بل بما لغيرها‏.‏
ومن شروط المحبة أنها تكون طاهرة‏.‏ فمحبة شاب لفتاة‏,‏ لايمكن ان تكون محبة حقيقية طلاقا‏,‏ إن كان يفسد عفتها ويفقدها سمعتها في المجتمع الذي تعيش فيه ويضيع أبديتها ومثل هذا الشاب لانقول إنه يحب الفتاة‏,‏ إنما يحب نفسه محبة خاطئة‏,‏ ويحب اشباع شهواته‏,‏ ولايهتم بصالح الفتاة‏,.‏ ومن شروط المحبة أنها تكون صادقة‏,‏ أي أن تكون المحبة بلا رياء ولانفاق‏,‏ ويدخل في ذلك أيضا كل كلام الملق‏,‏ والمديح الكاذب‏,‏ ولاتكون محبة فيمن يساعد غيره علي إهلاك نفسه‏,‏ أو علي ارتكاب خطاياه‏,‏ إنما المحبة الحقيقية هي محبة روحانية‏,‏ فيها تحب شخصا بأن تساعده علي حياة البر‏,‏ ولاتشاركه في خطأ ولاتوافقه علي ذلك ولاتنصحه به‏.‏ والقلب المحب لايعرف البغضة مطلقا‏,‏ فهو بالبغضة يكون بعيدا عن الله والناس‏,‏ لأن الله محبة‏,‏ والقلب المحب لاينتقم لنفسه‏,‏ ولايرد الإساءة بإساءة‏.‏ لأن الانتقام هو لون من الكراهية والعداوة والقساوة‏.‏ وأيضا هو لون من محبة الذات لامحبة الغير لذلك يعلمنا الدين أنه‏:‏ إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه‏.‏
والمحبة تكون محبة للكل‏,‏ ولاتكون أبدا تحيزا لجنس أو لون أو دين‏,‏ بلا تمييز بسبب شيء من هذا كله‏,‏ بل ملتزمة بالحق والموضوعية ومن أنواع المحبة‏:‏ محبة الأبوة والأمومة ومحبة البنوة والأخوة ومحبة الأزواج‏,‏ ومحبة الأصدقاء‏,‏ ومحبة العشيرة ومحبة الوطن‏,‏ ومحبة بيت الله‏,‏ ومحبة الفريق‏,‏ ومحبة المجتمع كله‏,‏ وأسمي درجة من المحبة هي المحبة للأعداء‏..‏ فعدونا الوحيد هو الشيطان أما الباقون الذين يسمون أعداء فهم ضحايا ذلك الشيطان‏,‏ ينبغي أن نصلي من أجلهم أن يهديهم‏.‏ الله ويغير سلوكهم‏,‏ من أجل أنفسهم وأبديتهم ومن أجلنا أيضا‏,‏ وقد يقول البعض‏:‏ من الصعب علي أن أحب عدوي‏,‏ فماذا أفعل؟ أقول لك‏:‏ علي الأقل لاتبغضه‏,‏ وحاول أن تغفر له في قلبك وتسامحه‏.‏ وأيضا لاتشمت به إذا فشل‏,‏ ولاتفرح إطلاقا بسقوطه‏,‏ فهذا أيضا يفقدك نقاوة قلبك‏.‏

***************************************************

نحب الله بتأمل صفاته الجميلة








البابا شنودة الثالث





























إنك يا أخي القارئ‏,‏ قد تحب شخصا أحيانا‏,‏ لمجرد أن صفة معينة فيه تجذبك إليه‏.‏ كأن يكون إنسانا شهما‏,‏ أو خفيف الظل مرحا‏,‏ أو يكون إنسانا ذكيا أو قوي الشخصية‏..‏ إنما مجرد صفة واحدة تجذبك إلي محبته‏.






























‏ فكم بالأولي الله سبحانه‏,‏ الذي تجتمع فيه كل الصفات الجميلة‏,‏ وعلي درجة غير محدودة من الكمال‏!!‏ لا شك أنك كلما تأملت صفة من صفات الله الفائقة الوصف‏,‏ ستجد نفسك تحبه‏.‏












هناك صفات يتميز بها الله وحدة‏,‏ ولايشترك فيها أي كائن آخر‏.‏ مما يجعلنا نقف في ذهول ونحن نتأمل الله الأزلي الذي لم يسبقه أحد‏.‏ أو الله الخالق الذي صنع كل شيء من لا شيء‏.‏ أو الله الواجب الوجود‏...‏ الله الحاضر في كل مكان‏,‏ وقبل مستوي الأزمات‏.‏ الله غير المحدود‏,‏ وغير المدرك‏,‏ وغير المرئي‏,‏ وغير المحوري‏,‏ الله العارف بالخفيات‏,‏ وفاحص القلوب والأفكار‏.‏ الذي يسبحه غير المرئيين‏,‏ ويسجد له الظاهرون‏...‏ ألوف ألوف وقوف قدامه‏,‏ وربوات ربوات يقدمون له الخدمة‏...‏ إلي غير ذلك من الصفات التي يختص بها لاهوته‏...‏ لا شك ونحن نتأمل عظمة الله‏,‏ لابد أن نمجده‏.‏ وحينما نتأمل كيف أنه علي الرغم من كل هذا الجلال الذي يحيط بالله نري كيف أنه في كل مجده ينظر إلينا‏,‏ ويولينا اهتماما خاصا‏.‏ حينئذ نجد أننا نحبه‏.‏

















































إننا نحب الله أيضا في صفاته الأخري التي يتصف بها بعض البشر‏,‏ ولكنها عند الله كاملة وغير محدودة‏...‏ مثل قوة الله وحكمته‏,‏ ومحبته ورحمته‏,‏ وصبره وطول أناته‏.‏ وقد يتصف بعض البشر بإحدي هذه الصفات او بكثير منها‏.‏ ولكنها عند البشر ضئيلة‏,‏ أما عند الله فهي في جمال من الروعة لايعبر عنها‏,‏ وفوق مستوي إدراكنا‏.‏ مثال ذلك إن الله راحوم وعادل‏.‏ وهو كامل في عدله‏,‏ وفي نفس الوقت كامل في رحمته‏.‏ ولا تتناقض الصفتان‏.‏ بل عدله مملوء رحمة‏,‏ ورحمته مملوءة عدلا‏.‏ هو عادل في رحمته‏,‏ ورحيم في عدله‏.‏ وهنا يملكنا العجب والإعجاب‏.‏ ولانستطيع ان نملك أنفسنا من أن نحبه‏.‏



































نحب الله القدوس‏,‏ الكامل في صلاحه‏.‏ والذي علي الرغم من كل هذا‏,‏ يتعامل معنا نحن الخطاة‏,‏ في رفق وحنو وشفقة‏.‏ بل يستر علينا في كثير من أخطائنا‏,‏ ولايكشفها لغيرنا‏!‏







































ويحافظ علينا‏.‏ ولايحاكمنا علي كل صغيرة وضئيلة كما يفعل معنا أخواتنا في البشرية‏,‏ الذين يخطئون مثلنا‏,‏ ولكنهم يركزون علي كل خطأ من أخطائنا‏,‏ ويشمئزون‏!‏





















إننا نحب الله الغفور‏,‏ الذي لم نجد مثله في مغفرته‏.‏ الله الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا‏,‏ ولم يجازنا حسب آثامنا‏.‏ لأنه يعرف طبيعتنا‏,‏ يذكر أننا تراب نحن‏..‏ الله الذي يغفر الخطايا مهما كثرت‏,‏ ويصفح عنها إذا ماتبنا‏.‏ ولايعود يذكرها لنا فيما بعد‏..‏ أي حنان هذا الذي يذيب قلب الإنسان التائب‏!‏ وكلما يغفر له الرب أكثر‏,‏ يحب الله أكثر وأكثر‏!!‏ فيقول للرب في صلواته‏:‏ مثل كثرة رأفتك تمحو إثمي‏!!....‏ حقا لو كان الله يرصد جميع خطايانا‏,‏ ما كان يخلص أحد‏.‏ ولهذا فإنه يستحق كل الحب‏,‏ هذا الإله الحنون الغفور‏,‏ الذي لايذكر لنا كل الماضي الأثيم‏,‏ من أجل حاضر مستقيم‏!‏













































إننا نحب أيضا إلهنا الحكيم‏,‏ ذا الحكمة الفائقة الوصف‏,‏ الذي صنع كل المخلوقات بحكمة عجيبة‏.‏ الذي بحكمه أوجد علاقة بين الأرض والشمس والقمر‏,‏ ينتج عنها الليل والنهار‏,‏ والصيف والشتاء‏,‏ وأوجه القمر المتعددة‏.‏ والذي جعل حكمة مابين الأجواء‏,‏ تنتج عنها الأهواء المتعددة‏.‏ بل صور الإنسان في حكمة عجيبة‏..‏ في كل من عمل المخ‏,‏ والقلب‏,‏ والأعصاب‏,‏ وسائر الأعضاء‏.‏ بدقة لاتخل إذا صارت حسب طبيعتها‏...‏ الله الذي في خلقه أوجد العشب والزهر‏.‏ وأوجد الألوان العجيبة في كثير من الطيور والأسماك‏,‏ والألحان المتنوعة في أصوات الطير‏.‏ إننا نحب الله الذي ـ في حكمة بالغة ـ جعل هناك علاقة بين القوي والضعيف‏,‏ فهو مثلا وهب الغزال قوة في الجري‏,‏ تجعله يستطيع الهروب من الأسد القوي القادر علي التهامه‏.‏















































إننا نحب الله الغني القوي‏.‏ الذي في غناه منح العالم كله من جوده‏.‏ حتي انه من فيض جود خيراته‏,‏ لم يعد العالم معوزا شيئا من نعمة تحننه‏.‏ فالخير يملأ الأرض كلها‏,‏ إذا ما أحسن توزيعه‏,‏ وإذا ماتحركت قلوب الجميع بحب الخير علي كل أحد‏...‏ الله الذي يملأ الدنيا غني‏,‏ والذي يجعل السماء تمطر علي الأرض فتغذيها‏,‏ أو الينابيع تنفجر من باطن الأرض لكي ترويها‏.‏ فمن السماء من فوق ينزل الخير‏,‏ ومن باطن الأرض من تحت يأتي الخير أيضا سبحانه الله في كل عطاياه‏.‏ ونحن نحب الله القوي‏,‏ الذي يستطيع ان يحمي‏,‏ وأن يدافع عن كل ضعيف‏,‏ ويمنح نعمة لصغيري النفوس‏,‏ ويقوي الركب المخلعة‏.‏ ولايترك الضعفاء مضغة في أفواه الأقوياء‏...‏ نحب الله الموجود بقوته في كل مكان‏,‏ ينظر ويسمع‏,‏ ويسجل‏.‏ وإذا بعبارة ربنا موجود‏,‏ يسمعها الضعفاء فيطمئنون‏.‏ ويسمعها العنفاء فيقشعرون‏.‏ ويشعر الكل بأن ميزان الله العادل مازال موجودا‏...‏ يري ويعمل ويحكم‏.‏ إننا نحب الله الذي يمنح الدب القطبي فروة في جسده تعطيه الدفء من برودة الجو‏.‏ الله الذي يهتم باليتيم وبالأرملة‏,‏ وبالغريب وبالضيف‏.‏ ولايحرم أحدا من أعمال نعمته‏.‏ فالكل من غنم رعيته‏.‏ أوجدهم ويهتم بهم‏.‏





********************************************************
نحبه بسبب إحساناته إلينا











































تكلمنا في العدد الماضي عن محبتنا لله‏.‏ ونود اليوم أن نذكر بعض الأسباب التي تقودنا إلي محبة الله‏.‏ ولعل من أولها تذكار إحساناته إلينا وإلي أحبائنا‏.‏ وهذا أمر واضح‏.‏ فإنك إن تذكرت جميل إنسان عليك‏,‏ أو إنقاذه لك‏,‏ أو وقوفه إلي جوارك في ضيقاتك‏,‏ لابد ستحبه‏.




‏ وإن استمر في ذلك فسوف تتعمق محبته في قلبك‏..‏ فكم بالأولي إحسانات الله التي لا تعد‏!!‏ وهذا الأمر اختبره داود النبي فقال في أحد مزاميره‏:‏ باركي‏(‏ سبحي‏)‏ يا نفسي الرب ولا تنسي كل إحساناته‏.‏ وأول إحسانات الله إليك إنه خلقك‏,‏ أي منحك نعمة الوجود‏.‏ خلق التراب أولا‏,‏ ثم جبلك من هذا التراب‏.‏ وأتذكر إنني قلت بضعة أبيات في هذا الأمر هي‏:‏
يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طرا
أنت أصلي‏,‏ أنت يا من أقدم من آدم عمرا
ومصيري أنت في القبر إذا وسدت قبرا
علي أن كرم الله لم يكتف بأن يمنحك الوجود‏,‏ بل أضاف إلي ذلك عقلا منحه إياك‏,‏ بما يحمل هذا العقل من إمكانيات التفكير والفهم والاستنتاج والذكاء‏,‏ وقدرة هذا العقل علي الاختراع والانشاء وأمور عالية جدا‏.‏ لكن الانسان للأسف الشديد بدلا من أن يشكر الله علي كل هذه الإحسانات‏,‏ فإنه يتكبر ويتعالي ويقول‏:‏ أنا‏..‏ أنا‏..‏ وعن هذا الأمر قلت في بعض أبيات من الشعر‏:‏
قل لمن يعتز بالألقاب إن‏...‏ صاح في فخره من أعظم مني
أنت في الأصل تراب تافه‏...‏ هل سينسي اصله من قال إني‏...‏؟‏!‏
إن الذي ينسي إحسانات الله هو الذي يفتخر بذاته وبمواهبه‏..‏ سواء كان له عقل أو ذكاء أو حكمة‏,‏ أو جمال وجه أو جمال صوت‏,‏ أو مواهب فنية أو حتي جمال خط‏..‏ مع مواهب أخري روحية‏,‏ وما أعطاه الله من نعمة في أعين الناس‏,‏ ومحبته في قلوب الآخرين‏..‏ والأولي أن يتذكر أن كل هذه هي من إحسانات الله إليه‏.‏ عليه أن يشكر الله ويحبه الذي منحه كل ذلك‏.‏ ويقول في صلاته‏:‏ كم أحبك يارب من أجل هذه النعم التي أعطتني إياها‏!‏ أو كم ينبغي أن أحبك‏.‏ وأيضا تحب الله من أجل إحساناته إلي أصدقائك وزملائك وأحبائك‏,‏ بل من أجل إحساناته أيضا إلي الوطن وإلي بلادها كلها‏..‏ فمن العجيب أننا في الكوارث‏,‏ نذكر من حلت بهم المصائب فنحزن ونتضايق‏.‏ وفي نفس الوقت لا نذكر أحباءنا ومعارفنا الذين أنقذهم الرب من ذلك وخلصهم بوسائل تكاد تكون ضمن المعجزات لذلك إجلس إلي نفسك وتذكر إحسانات الله إليك‏,‏ منذ ولادتك وإلي الآن‏.‏
اذكر أيضا ستر الله عليك في خطايا ارتكبتها‏,‏ لو عرفها الناس ما كانوا يحترمونك‏.‏ ولكن الله الذي يعرف خطاياك كلها‏,‏ والتي لا يعرفها أحد غيره‏,‏ مع ذلك يستر ويغفر‏.‏ بل إن إحسانات الله إليك قد سبقت ولادتك أيضا‏:‏ فكان من الممكن أنك لا تولد‏,‏ ولا تأتي إلي عالم الوجود‏,‏ لأي سبب يتعلق بأبيك أو بأمك‏.‏ وكان ممكنا أن ترث وأنت جنين بعض الأمراض‏,‏ أو بعض النقائص‏.‏ ولكن الله حفظك منها جميعا‏.‏ ومنحك أن تولد إنسانا سويا جسدا وعقلا ونفسا‏.‏ فهل يجوز لك أن تنسي كل هذا؟‏!‏ إنك لو ذكرت جميل الله عليك في تلك الفترة‏,‏ لازدت حبا له‏.‏ وأذكر أيضا حفظ الله لك في طفولتك‏,‏ وكيف أن الله جعل هذه الفترة من حياتك تمر بسلام‏,‏ وأتي بك إلي هذه الساعة التي تقرأ فيها هذا المقال‏..‏ قل إذن في صلاتك‏:‏ أنا أحبك يا الله من أجل طول أناتك علي‏,‏ وصبرك وإحسانك إلي‏,‏ علي الرغم من كثرة إساءتي إليك وكسري لوصاياك‏.‏ إذا أردت أيضا أن يمتليء بمحبة الله‏,‏ لا تنسب إحساناته إلي غيره‏,‏ لا تنسبها إلي الناس أو إلي نفسك‏...‏ فكثيرا ما أنجح الله عملك‏,‏ فكنت تنسب النجاح إلي ذكائك وقدرتك‏,‏ وتنسي الله الذي ساعدك وأعانك‏!‏ وكثيرا ما كان الله يرسل إليك إنسانا ينقذك فتنسب كل الفضل إلي ذلك الانسان‏,‏ وتنسي الله الذي أرسله إليك‏!...‏ وقد تمرض وتحتاج إلي عملية جراحية خطيرة‏,‏ ويجريها لك أحد الأطباء المشهورين وتنجح العملية وتشفي‏,‏ وتعزو بشفائك إلي نبوغ الطبيب وخبرته العالية‏,‏ وتنسي الله الذي أمسك بيد الطبيب وقاد عقله ومنحه الموهبة‏..‏ وفي نسيانك لله وعمله‏,‏ تفقد الشعور بإحسانه إليك‏,‏ وتفقد سببا تحبه به‏.‏ والعجيب أننا فيما ننسب الخير الذي نناله من الله إلي غيره‏,‏ فإننا ننسب كل مشاكلنا إلي الله‏!!...‏ وكل مصيبة تحل بنا ننسبها إلي الله‏,‏ ونعاتبه عليه‏.‏ ونظل نشكو لكل أحد ونقول إن الله أهملنا‏,‏ فأين رحمته إذن وحنانه؟‏!‏ وقد تكون تلك المشكلة بسبب الناس الأشرار‏,‏ ولكننا ننسبها إلي عدم محبة الله لنا‏!!‏ وقد تكون المشكلة بسبب إهمالنا نحن أو أخطائنا‏,‏ ولكننا ننسبها إلي الله أيضا‏!!‏ أما أنت يا أخي‏,‏ فكل بركة تأتيك‏,‏ إنسبها إلي الله‏,‏ لا إلي الناس ولا إلي نفسك‏.‏ وكل مشكلة تصيبك‏,‏ ارجعها إلي أسبابها الطبيعية الحقيقية‏.‏ ذلك لأن الله هو مصدر كل خير‏,‏ ولا يأتي شر من جهة الله إطلاقا‏...‏ إنه الذي يظل يحسن إلينا حتي إنا نسينا إحساناته‏.‏ إن إحسانات الله تصل بنا إلي الشكر عليها‏.‏ والشكر يوصلنا إلي محبة الله‏,‏ وليس إلي مجرد الفرح بإحساناته وإنما نري أن إحسانات الله دليل علي محبته لنا‏,‏ فنبادله حبا بحب‏.‏










*******************************************************

محبتنا لله

الفضيلة الاولي والكبري هي ان نحب الله من كل القلب ومن كل الفكر‏.‏ وان أحببناه نفعل في كل حين ما يرضيه‏,‏ وبالمحبة نطيع وصاياه‏,‏ لا عن قهر ولا عن خوف وانما عن حب لله ولوصاياه‏.‏

فالدين يا اخوتي‏,‏ ليس مجرد حلال وحرام‏!‏ او مجرد اوامر ونواه‏,‏ بقدر ما هو حب نحو الله والناس‏.‏ومن هذا الحب ينبع كل خير‏,‏ وتصدر كل فضيلة‏.‏ والشخص الذي لا يحب الله والناس‏,‏ ليس هو انسانا متدينا بالحقيقة‏,‏ مهما كانت له صلوات واصوام‏,‏ وقراءات وتأملات وعطاء وخدمة للآخرين‏.‏ ولا نظن ان الدين هو مجرد واجبات او فروض‏,‏ او وصايا نرغم انفسنا عليها لكي نظهر مطيعين لاوامر الله‏,‏ او لكي نكون ابرارا في اعين انفسنا‏,‏ بل نحن نحب الله كما احبنا من قبل حتي قبل ان نوجد‏,‏ ومن اجل هذا الحب اوجدنا ونحب الله لانه يرعانا باستمرار‏,‏ ويكفل كل احتياجاتنا‏.‏ ومن فرط جوده يعطينا قبل ان نطلب‏,‏ ويعطينا فوق ما نطلب ان طلبنا‏.‏
اننا نحب الله‏,‏ ونحب كل الناس داخل محبتنا له‏.‏ ولا نسمح بوجود محبة في قلوبنا تتعارض مع محبة الله او تفوق محبتنا لله‏.‏ حتي محبتنا لانفسنا لا نجعلها في المرتبة الاولي‏,‏ فمحبة الله هي قبل كل شيء‏.‏ ولا يجوز ان اية شهوة او رغبة ندعها تفصلنا عن محبة الله‏.‏
وكل محبة تنافس الله في قلوبنا‏,‏ تكون محبة غريبة خاطئة لا نسمح بها لانفسنا‏.‏ ان قلوبنا هي ملك الله وحده‏,‏ فلا يجوز ان نعطيها لغيره‏.‏ ولكننا نحب جميع الناس داخل محبتنا لله‏.‏
ان الذي يحب الله‏,‏ يحب ان يتكلم معه‏,‏ وهكذا يحب الصلاة ويري الصلاة ـ من واقع اسمها ـ هي مجرد صلة بالله‏.‏ انها اشتياق الي الله‏,‏ والي البقاء في حضرته‏,‏ وهي مذاقة حلوة لارواحنا تسمو بها في اجواء عليا ارفع من مستوانا‏.‏ ومن اجمل ألفاظ الصلاة ان يقول الشخص‏:‏ اعطني يارب ان احبك‏,‏ وايضا علمني يارب كيف احبك‏,‏ دربني علي محبتك‏,‏ ودرجني في محبتك اسكب محبتك في قلبي‏.‏ وانزع من قلبي كل محبة تتعارض مع محبتك حتي يصير القلب كله لك وحدك‏.‏ وايضا اجعل محبتك هي التي تشغلني وتملك قلبي‏,‏ وهي التي تقود كل تصرفاتي وتمنحني ان احب الناس جميعا‏.‏ بهذا الشعور لا تكون الصلاة واجبا او فرضا‏,‏ بل تكون متعة للروح وللفكر والقديسون الذين ذاقوا هذه المتعة‏,‏ كانوا يحبون الكلام مع الله اكثر من الكلام مع الناس بما لا يحد‏.‏
ان الذين احبوا الله‏,‏ احبوا ملكوته‏.‏ واحبوا الابدية التي يحيون فيها معه‏.‏ولم تعد محبة العالم والمادة تشغلهم بل أيقنوا تماما ان كل شهوات العالم زائلة تنتهي بعد حين‏,‏ اما محبة الله فتبقي الي الابد‏.‏ شهوات العالم سطحية‏,‏ اما محبة الله فلها عمق‏,‏ ولها قدسية وترفع مستوي الانسان‏,‏ في حين ان شهوات العالم تهبط بمستواه‏..‏ والانسان الروحي يقول‏:‏ كلما احبك يارب‏,‏ ترفعني اليك‏,‏ لأعيش السماويات‏..‏ اما إن احببت هذا العالم الحاضر‏,‏ فإنه يهبطني معه الي الارض الي التراب والارضيات‏.‏
ما أجمل التأمل في صفات الله‏,‏ انها تغرس محبته في قلوبنا‏..‏ الله المحب الطيب الشفوق‏,‏ الطويل الروح‏,‏ الكثير الرحمة‏,‏ الجزيل التحنن‏.‏ الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا‏,‏ ولم يجازنا حسب أثامنا‏..‏ الله الكلي القداسة‏,‏ الكلي الحكمة الكلي القدرة‏,‏ الذي فيه كل كنوز الحكمة والعلم‏.‏
اننا نحب الله الذي هو اقوي من الكل‏.‏ وهو الذي يحرسنا ويسندنا‏,‏ تشعر النفس المحبة له انها في حمايته‏,‏ محاطة بقوة عجيبة‏,‏ لا يقدر عليها عدو مهما بلغ من جبروت‏,‏ ولا حتي الشيطان في كل حيله وحروبه‏,‏ هو لا شيء امام قوة الله الحافظة لنا‏.‏ وهكذا فان محبة الله تطرح الخوف الي خارج قلوبنا فلا نخاف الدينونة‏,‏ ولا تخاف الناس‏,‏ ولا الخطية‏,‏ ولا الشيطان‏.‏
ان محبتنا الحقيقة لله تجعلنا ننتصر علي جميع العوائق‏.‏ ولعل العائق الاول هو الذات‏,‏ الـ‏EGO‏ فكثير من الناس يحبون ذواتهم اكثر من محبتهم لله‏!!‏ ذاتهم هي الصنم الذي يتعبدون له‏,‏ ويبحثون باستمرار عن رغبات هذه الذات وشهواتها‏,‏ ورفعة الذات ومجدها‏,‏ وكرامة الذات وانتقامها لنفسها‏,‏ وعظمة هذه الذات ومديح الناس لها‏..‏ وفي سبيل ذلك ما اكثر الخطايا التي يقترفونها‏,‏ ويبعدون بها عن الله ومحبته‏..‏ ولذلك يضع امامنا الله ـ تبارك اسمه ـ فضيلة انكار الذات‏.‏
وكثيرا ايضا ما تقف المادة ضد محبة الله‏,‏ كالمال مثلا‏.‏ فإن كنت تملك مالا‏,‏ فلا تجعل هذا المال يملكك‏,‏ انفقه في محبة الله والناس‏,‏ فيكون لك كنز في السماء‏.‏
الجسد ايضا تقف شهواته احيانا ضد محبة الله‏.‏ لذلك فان شهوات الجسد ضد شهوة الروح‏.‏ العجيب ان غالبية الناس يهتمون براحة اجسادهم اكثر من راحة الروح‏.‏
كذلك ايضا المشغوليات تعطلنا احيانا عن محبة الله‏..‏ اذا استطاعت هذه المشغوليات ان تستولي علي كل الوقت وكل الاهتمام‏,‏ وتشغل الفكر والعواطف بحيث لا تبقي مجالا للانشغال بالله في صلاة أو في تأمل أو في قراءة كلمة الله‏,‏ أو حضور الاجتماعات الروحية‏,‏ وهكذا تبعدنا المشغوليات عن الوسائط الروحية التي تعمق محبة الله في قلوبنا‏,‏ نصيحتي لك أن تمسك بميزان دقيق‏,‏ وتجعل لكل مشغولياتك حدا لا تتعداه‏,‏ فلا تضغي كفتها علي حياتك الروحية‏.‏ لأنه ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟‏!‏ اهتم اذن بمحبة الله وبالوسائط التي تؤدي اليها ولتكن لها المكانة الأولي في قلبك‏,‏ وحينئذ يكون لك فرح كبير لأنك وجدت الطريق الذي يوصلك الي الله والي محبته وبذلك تصل الي محبة الفضيلة والقداسة‏,‏ وكما قال بعض الآباء‏:‏ ان القداسة هي استبدال الشهوة بشهوة إذ يترك الانسان شهوة العالم والمادة والجسد لكي يتمتع بشهوة الوجود في حضرة الله والتمتع بعشرته فيشتهي كل ما يتعلق بالحب الإلهي وكل ما يوصله اليه ويجد في ذلك لذة وفرحا لا تقارن به كل ملاذ الدنيا‏.‏

*******************************************************

النجاح‏:‏ أنواعه ودرجته




كلمة النجاح كلمة مفرحة‏.‏ والانسان الناجح يكون فرحا بنجاحه وسبب فرح لاسرته واحبائه وللمجتمع المحيط به‏,‏ وهناك أنواع من النجاح تكون فرحة للوطن كله‏.‏ كماان نجاح الانسان روحيا يكون سبب فرحة للملائكة وارواح القديسين‏.
‏ ونتكلم حاليا عن الفرح بمناسبة النتائج الدراسية وماتعلنه من نجاح كثير من التلاميذ‏.‏
والنجاح كما يضم هؤلاء الصغار يضم ايضا من حصلوا علي جائزة نوبل‏,‏ مثل الاديب نجيب محفوظ‏,‏ والعالم احمد زويل‏,‏ وكل من قدموا بحوثا ناجحة‏,‏ او اختراعات تم الاعتراف بها‏.‏ كل اولئك كانوا سبب فرح لبلدهم ووطنهم‏.‏
فلايكفي اذن مجرد النجاح‏,‏انما ايضا التفوق والذكاء والنبوغ والعبقرية الذي يرفع رأس الجميع ويكون أيضا سببا للفخر وللاعجاب‏.‏
ونحن لانقصد بالنجاح مجرد النجاح العلمي فقط‏,‏ وانما كل نجاح في كل الميادين‏:‏ كنجاح المحامي اذا كسب قضية معينة‏,‏ ونجاح الطبيب في علاج مريضه‏,‏ ونجاح العامل في اتقان عمله‏,‏ ونجاح الفنان في اتقان دوره‏,‏ ونجاح الوالدين في تربية ابنائهما‏,‏ ونجاح فريق الكرة في كسب المباراة وقد رأينا كيف ان بعض رؤساء الدول يرقصون فرحا في نجاح فرقهم بالمونديال‏..‏ كذلك يكون الفرح بأي اقتراح ناجح‏,‏ او اية فكرة ناجحة‏.‏ او اي مشروع يلاقي نجاحا‏.‏
وكمايكون الفرح بالنجاح‏,‏ يزداد الفرح اكثر بدرجة النجاح‏.‏ فهناك فرق بين تلميذ ينجح نجاحا عاديا‏,‏ وبين آخر ينجح بتفوق وبامتياز واكثر منهما في سبب الفرح الاوائل حيث يكونون سبب فرح عميق لكل من يتصل بهم‏.‏
وعكس ذلك كله الفشل والرسوب ومايسببه من حزن ومن انهيار احيانا‏.‏
والنجاح هو صفة من صفات الانسان الروحي‏,‏ الذي يكون ناجحا في كل شيء وكل مايعمله ينجح فيه‏..‏ فإن مقومات النجاح تكون في شخصيته لاتفارقه في كل مايمارسه من اعمال‏..‏ فيكون ناجحا في وظيفته وناجحا في كسب احترام وثقة من يتعامل معهم‏.‏ ويكون ناجحا في أخلاقياته‏,‏ وناجحا في حياته العائلية‏,‏ وناجحا في رسالته وفي مهمته‏.‏ ناجحا ايضا في ملاقاة الصعاب وفي حل المشاكل التي يتعرض لها‏,‏ وناجحا في النجاة من المكائد والمؤامرات‏.‏ ولايؤثر عليه شيء‏,‏ بل يجتاز كل ذلك في نجاح‏.‏
والتاريخ يعطينا يوسف الصديق كمثال‏,‏ اذ كان ناجحا ومحبوبا في كل وضع‏:‏ كان ناجحا كابن في اسرة نال محبة والديه‏,‏ وناجحا كخادم في بيت ذلك المصري‏,‏ وناجحا كسجين يلتف حوله زملاؤه ويستشيرونه في مشاكلهم كما كان ناجحا كوزير ائتمنه فرعون علي ادارة البلاد ايام المجاعة‏.‏
بلا شك ان هناك امثلة كثيرة للناجحين في كل مراحل التاريخ‏:‏ من القادة الناجحين في الحروب الذين أنقذوا بلادهم ورفعوا شأنها‏.‏ ومن الفلاسفة والكتاب الذين خلدت اسماؤهم وحفظ التاريخ تراثهم‏.‏ ومن العلماء الذين انتفع العالم بعلمهم علي مر الاجيال وحتي الآن‏.‏ ولاننسي ايضا المصلحين الاجتماعيين ومؤسسي الجامعات‏,‏ واصحاب الانشطة المتعددة في مجالات كثيرة‏.‏
علي اننا في موضوع النجاح لاتهمنا كثيرا البداية‏.‏ ان كانت فاشلة احيانا‏,‏ انما تهمنا النهاية التي يحصل عليها الانسان الناجح‏.‏ فالانسان الناجح كثيرا ماتقابله صعاب ومشاكل تعطله‏,‏ لهذا كله لاتتعب مطلقا‏,‏ ان لم تحصلوا علي النجاح في بداية الطريق‏,‏ فالنجاح يحتاج الي صبر والي مثابرة‏,‏اما الانسان الذي يدركه الملل والضجر والضيق فهذا لايستطيع ان ينجح‏,‏ اما الانسان الروحي فلا يقلق‏,‏ وانما ينتظر ثمرة كفاحه حتي تنضج‏.‏
والانسان الروحي يكون ناجحا أيضا في داخل نفسه‏:‏ يكون ذا نفسية قوية لاتتزعزع ولا تضطرب ولاتخاف‏,‏ يكون ناجحا في قلبه وفي اعصابه وفي ارادته وقبل كل شيء يكون ناجحا في علاقته مع الرب خالقه‏.‏ ويسير في حياته كسهم نحو هدف‏,‏ يصل الي غايته بدون انحراف‏.‏ ومهما هاجت الامواج علي سفينته لايضعف ولايفشل من الداخل ولايلين ايمانه في امكانية النجاح علي الرغم من كل العراقيل التي تحاول ان تسد الطريق امامه‏,‏ بل يجد لذة في الانتصار علي تلك العقبات‏,‏ بنعمة من الله‏,‏ ونجاحه علي الرغم من الصعاب يكون له فرح اكبر‏,‏ ويعطي خبرة روحية عميقة في عمل الله معه‏.‏
والنجاح ايضا يحتاج الي حكمة وذكاء فكثيرون يفشلون في حياتهم الروحية او المادية او العائلية او في معاملتهم‏,‏ كل ذلك بسبب نقص في الحكمة وفي حسن التصرف‏,‏ او بسبب عدم وضوح الطريق امامهم‏,‏ فأمثال هؤلاء يحتاجون الي ارشاد من مرشدين‏,‏ لهم عقلية واعية حكيمة‏,‏ ويحتاجون الي صلاة لكي يرشدهم الله في طرقهم‏.‏
والنجاح يحتاج الي عمل دؤوب لان الذي يزرعه الانسان اياه يحصد‏.‏ ويحتاج النجاح ايضا الي صمود حتي النهاية‏,‏الانسان الناجح ان فاتته فرصة يلتمس غيرها‏,‏وهو لاييأس ابدا‏,‏ بل علي العكس ان فشل في الخطوات الاولي‏,‏ يعود فيقوم‏,‏ وهو باستمرار يضع امامه قصص الناجحين لكي يكونوا مثلا عليا يقتدي بهم‏,‏ ويعرف وسائل نجاحهم في الحياة‏,‏وهو يحتاج في نجاحه ايضا الي بركة من الله‏,‏وبركة من والديه‏.‏
وفي موضوعنا هذا لابد ان نفرق بين النجاح الحقيقي والنجاح الزائف‏,‏ فنجاح فتاة في اغراء احد الشبان‏,‏ نجاح زائف ومثله نجاح شاب في اسقاط فتاة‏,‏ ومن امثلة النجاح الزائف ايضا نجاح شخص ماكر خبيث يخدع انسانا بسيطا‏,‏يفرح قائلا‏:‏ قد نجحت اللعبة وهنا تقف امامنا مشكلة منذ القديم وهي‏:‏ لماذا تنجح احيانا طرق الاشرار ؟ وقداطمأن الغادرون غدرا؟‏!‏ هنا ونذكر مثالا ذكره القديس اغسطينوس اذ قال‏:‏ ان نجاح الاشرار كالدخان الذي يرتفع الي فوق وتتسع رقعه وفي كل ذلك يتبدد‏,‏ اما النار فتبقي تحت لاتعلو مثل الدخان‏,‏ولكنها تظل في قوتها و حرارتها وفاعليتها‏,‏ لاتتبدد مثله في الارتفاعلذلك فنجاح الاشرار هو نجاح زائف ومؤقت‏,‏ و بطرق شريرة‏.‏ المهم اذن هو النجاح الحقيقي الذي يباركه الله ويفرح به الناس‏.‏